فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فالواو عاطفة جملة {ألم يسيروا في الأرض} على جملة {وأنذرهم يوم الأزِفَة} [غافر: 18]. إلخ.
والاستفهام تقريري على ما هو الشائع في مثله من الاستفهام الداخل على نفي في الماضي بحرف لْم، والتقرير موجه للذين ساروا من قريش ونظروا آثار الأمم الذين أبادهم الله جزاء تكذيبهم رسلهم، فهم شاهدوا ذلك في رحلتيهم رحلةِ الشتاء ورحلة الصيف وإنهم حدثوا بما شاهدوه مَن تضمهم نواديهم ومجالسهم فقد صار معلومًا للجميع، فبهذا الاعتبار أسند الفعل المقرر به إلى ضمير الجمع على الجملة.
والمضارع الواقع بعد لَم والمضارعُ الواقع في جوابه منقلبان إلى المضي بواسطة لم.
وتقدم شبيه هذه الآية في آخر سورة فاطر وفي سورة الروم.
والضمير المنفصل في قوله: {كانُوا هُم} ضمير فصل عائد إلى {الظالمين} [غافر: 18] وهم كفار قريش الذين أريدوا بقوله: {وأنذرهم} [غافر: 18]، وضمير الفصل لمجرد توكيد الحكم وتقويته وليس مرادًا به قصر المسند على المسند إليه، أي قصر الأشدّية على ضمير: كانوا إذ ليس للقصر معنى هنا كما تقدم في قوله تعالى: {إنني أنا الله} في سورة [طه: 14] وهذا ضابط التفرقة بين ضمير الفصل الذي يفيد القصر وبين الذي يفيد مجرد التأكيد.
واقتصار القزويني في تلخيص المفتاح على إفادة ضمير الفصل الاختصاص تقصير تبع فيه كلام المفتاح وقد نبه عليه سعد الدين في شرحه على التلخيص.
والمراد بالقوة القوةُ المعنوية وهي كثرة الأمة ووفرةُ وسائل الاستغناء عن الغير كما قال تعالى: {فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا مَن أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة} [فصلت: 15].
وجملة {كانوا هم أشد منهم قوَّة} إلخ مستأنفة استئنافًا بيانيًا لتفصيل الإِجمال الذي في قوله: {كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم} لأن العبرة بالتفريع بعدها بقوله: {فأخَذَهم الله بذنوبهم}.
وقرأ الجمهور {منهم} بضمير الغائب، وقرأه ابن عامر {منكم} بضمير خطاب الجماعة وكذلك رسمت في مصحف الشام، وهذه الرواية جارية على طريقة الالتفات.
والآثار: جمع أثر، وهو شيء أو شكل يرسمه فعل شيء آخر، مثلُ أثر الماشي في الرمْل قال تعالى: {فقبضت قبضة من أثر الرسول} [طه: 96] ومثلُ العشب أثر المطر في قوله تعالى: {فانظر إلى أثر رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها} [الروم: 50]، ويستعار الأثر لما يقع بعد شيء كقوله تعالى: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم} [الكهف: 6].
والمراد بالأرض: أرض أمتهم.
والفاء في {فأخَذَهُم الله} لتفريع الأخذ على كونهم أشدَّ قوة من قريش لأن القوة أريد بها هنا الكناية عن الإِباء من الحق والنفور من الدعوة، فالتقدير: فأعرضوا، أو فكفروا فأخذهم الله.
والآخذ: الاستئصال والإِهلاك كنّي عن العقاب بالأخذ، أو استعمل الأخذ مجازًا في العقاب.
والذنوب: جمع ذنب وهو المعصية، والمراد بها الإِشراك وتكذيب الرسل، وذلك يستتبع ذنوبًا جمة، وسيأتي تفسيرها بقوله: {ذلك بأنَّهم كانت تأتِيهِم رُسُلُهم بالبينات}.
ومعنى: {وما كانَ لهُم مِنَ الله من وَاق} ما كان لهم من عقابه وقدرته عليهم، فالواقي: هو المدافع الناصر.
و{مِن} الأولى متعلقة ب {واقٍ} وقدم الجار والمجرور للاهتمام بالمجرور، و{من} الثانية زائدة لتأكيد النفي بحرف ما وذلك إشارة إلى المذكور وهو أخذ الله إياهم بذنوبهم.
والباء للسببية، أي ذلك الأخذ بسبب أنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا بهم، وفي هذا تفصيل للإجمال الذي في قوله: {فأخذهم الله بذنوبهم}.
والجملة بعد أنَّ المفتوحة في تأويل مصدر.
فالتقدير: ذلك بسبب تحقق مجيء الرسل إليهم فكفرهم بهم.
وأفاد المضارع في قوله: {تأتيهم} تجدد الإتيان مرة بعد مرة لمجموع تلك الأمم، أي يأتي لكل أمة منهم رسول، فجمع الضمير في {تأتيهم} و{رسلهم} وجمع الرسل في قوله: {رسلهم} من مقابلة الجمع بالجمع، فالمعنى: أن كل أمة منهم أتاها رسول.
ولم يؤت بالمضارع في قوله: {فكفروا} لأن كفر أولئك الأمم واحد وهو الإِشراك وتكذيب الرسل.
وكرر قوله: {فأخَذَهُمُ الله} بعد أن تقدم نظيره في قوله: {فأخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِم} إلخ إطنابًا لتقرير أخذ الله إياهم بكفرهم برسلهم، وتهويلًا على المنذَرين بهم أن يُساوُوهم في عاقبتهم كما سَاوَوْهم في أسبابها.
وجملة: {إنَّه قَوِيٌّ شَدِيد العِقَابِ} تعليل وتبيين لأخذ الله إياهم وكيفيته وسرعة أخذه المستفادة من فاء التعقيب، فالقويّ لا يعجزه شيء فلا يعطل مراده ولا يتريث، و{شديد العقاب} بيان لذلك الأخذ على حد قوله تعالى: {فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر} [القمر: 42]. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)} الأمر بقوله: {فادعوا الله} للمنيبين المؤمنين أصحاب رسول الله صلّى اللّه عليه وسلم: أي اعبدوه، {مخلصين له الدّين} من الشرك على كل حال، حتى في حال غيظ أعدائكم المتمالئين عليكم وعلى استئصالكم.
ورفيع: خبر مبتدأ محذوف.
وقال الزمخشري: ثلاثة أخبار مترتبة على قوله: {الذي يريكم} أو أخبار مبتدأ محذوف، وهي مختلفة تعريفًا وتنكيرًا. انتهى.
أما ترتبها على قوله: {هو الذي يريكم} فبعيد كطول الفصل، وأما كونها أخبارًا مبتدأ محذوف، فمبني على جواز تعدد الأخبار، إذا لم تكن في معنى خبر واحد، والمنع اختيار أصحابنا.
وقرئ: رفيع بالنصب على المدح، واحتمل أن يكون رفيع للمبالغة على فعيل من رافع، فيكون الدرجات مفعول، أي رافع درجات المؤمنين ومنازلهم في الجنة.
وبه فسرا بن سلام، أو عبر بالدرجات عن السموات، أرفعها سماء، والعرش فوقهنّ.
وبه فسر ابن جبير، واحتمل أن يكون رفيع فعيلًا من رفع الشيء علا فهو رفيع، فيكون من باب الصفة المشبهة، والدرجات: المصاعد الملائكة إلى أن تبلغ العرش، أضيفت إليه دلالة على عزه وسلطانه، أي درجات ملائكته، كما وصفه بقوله: {ذي المعارج} أو يكون ذلك عبارة عن رفعه شأنه وعلو سلطانه.
كما أن قوله: {ذو العرش} عبارة عن ملكه، وبنحوه فسر ابن زيد قال: عظيم الصفات.
و{الروح} النبوة، قاله قتادة والسدي، كما قال: وعن قتادة أيضًا: الوحي.
وقال ابن عباس: القرآن، وقال الضحاك: جبريل يرسله لمن يشاء.
وقيل: الرحمة، وقيل: أرواح العباد، وهذان القولان ضعيفان، والأولى الوحي، استعير له الروح لحياة الأديان المرضية به، كما قال: {أو من كان ميتا فأحييناه} وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون القاء الروح عامل لكل ما ينعم الله به على عباده المهتدين في تفهيم الإيمان والمعقولات الشريفة. انتهى.
وقال الزجاج: الروح: كل ما به حياة الناس، وكل مهتد حي، وكل ضال ميت. انتهى.
وقال ابن عباس: {من أمره} من قضائه.
وقال مقاتل: بأمره، وحكى الشعبي من قوله، ويظهر أن من لابتداء الغاية.
وقرأ الجمهور: {لينذر} مبنيًّا للفاعل، {يوم} بالنصب، والظاهر أن الفاعل يعود على الله، لأنه هو المحدث عنه.
واحتمل يوم أن يكون مفعولًا على السعة، وأن يكون ظرفًا، والمنذر به محذوف.
وقرأ أبيّ وجماعة: كذلك إلا أنهم رفعوا يوم على الفاعلية مجازًا.
وقيل: الفاعل في القراءة الأولى ضمير الروح.
وقيل: ضمير من.
وقرأ اليماني فيما ذكر صاحب اللوامح: لينذر مبنيًّا للمفعول، يوم التلاق، برفع الميم.
وقرأ الحسن واليماني فيما ذكر ابن خالويه: لتنذر بالتاء، فقالوا: الفاعل ضمير الروح، لأنها تؤنث، أو فيه ضمير الخطاب الموصول.
وقرئ: التلاق والتناد، بياء وبغير ياء، وسمي يوم التلاق لالتقاء الخلائق فيه، قاله ابن عباس.
وقال قتادة ومقاتل: يلتقي فيه الخالق والمخلوق.
وقال ميمون بن مهران: يلتقي فيه الظالم والمظلوم.
وحكى الثعلبي: يلتقي المرء بعلمه.
وقال السدّي: يلاقي أهل السماء أهل الأرض.
وقيل: يلتقى العابدون ومعبودهم.
{يوم هم بارزون} أي ظاهرون من قبورهم، لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء، لأن الأرض إذ ذاك قاع صفصف، ولا من ثياب، لأنهم يحشرون حفاة عراة.
ويومًا بدل من يوم التلاق، وكلاهما ظرف مستقبل.
والظرف المستقبل عند سيبويه لا يجوز إضافته إلى الجملة الإسمية، لا يجوز: أجيئك يوم زيد ذاهب، أجراء له مجرى إذا، فكما لا يجوز أن تقول: أجيئك إذا زيد ذاهب، فكذلك لا يجوز هذا.
وذهب أبو الحسن إلى جواز ذلك، فيتخرج قوله: {يوم هم بارزون} على هذا المذهب.
وقد أجاز ذلك بعض أصحابنا على قلة، والدلائل مذكورة في علم النحو.
وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون انتصابه على الظرف، والعامل فيه قوله: {لا يخفى} وهي حركة إعراب لا حركة بناء، لأن الظرف لا يبنى إلا إذا أضيف إلى غير متمكن، كيومئذ.
وقال الشاعر:
على حين عاتبت المشيب على الصبا

وكقوله تعالى: {هذا يوم ينفع} وأما في هذه الآية فالجملة اسم متمكن، كما تقول: جئت يوم زيد أمير، فلا يجوز البناء. انتهى.
يعني أن ينتصب على الظرف قوله: {يوم هم بارزون}.
وأما قوله لا يبنى إلا إذا أضيف إلى غير متمكن، فالبناء ليس متحتمًا، بل يجوز فيه البناء والإعراب.
وأما تمثيله بيوم ينفع، فمذهب البصريين أنه لا يجوز فيه إلا الإعراب، ومذهب الكوفيين جواز البناء والإعراب فيه.
وأما إذا أضيف إلى جملة إسمية، كما مثل من قوله: جئت يوم زيد أمير، فالنقل عن البصريين تحتم الإعراب، كما ذكر، والنقل عن الكوفيين جواز الإعراب والبناء.
وذهب إليه بعض أصحابنا، وهو الصحيح لكثرة شواهد البناء على ذلك.
ووقع في بعض تصانيف أصحابنا أنه يتحتم فيه البناء، وهذا قول لم يذهب إليه أحد، فهو وهم.
{لا يخفى على الله منهم شيء} أي من سرائرهم وبواطنهم.
قال ابن عباس: إذا هلك من في السموات ومن في الأرض، فلم يبق إلا الله قال: {لمن الملك اليوم} فلا يجيبه أحد، فيرد على نفسه: {لله الواحد القهار}.
وقال ابن مسعود: يجمع الله الخلائق يوم القيامة في صعيد بأرض بيضاء، كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط، فأول ما يتكلم به أن ينادي مناد: {لمن الملك اليوم}؟ فيجيبوا كلهم: {لله الواحد القهار}.
روي أنه تعالى يقرر هذا التقرير ويسكت العالم هيبة وجزعًا، فيجيب نفسه بقوله: {لله الواحد القهار} فيجيب الناس، وإنما خص التقرير باليوم، وإن كان الملك له تعالى في ذلك اليوم وفي غيره، لظهور ذلك للكفرة والجهلة ووضوحه يوم القيامة.
وإذا تأمّل من له مسكة عقل تسخير أهل السموات الأرض، ونفوذ القضاء فيهم، وتيقن أن لا ملك إلا لله، ومن نتائج ملكه في ذلك اليوم جزاء كل نفس بما كسبت، وانتفاء الظلم، وسرعة الحساب، إن حسابهم في وقت واحد لا يشغله حساب عن حساب.
قال ابن عطية: وهذه الآية نص في أن الثواب والعقاب معلق باكتساب العبد.
انتهى، وهو على طريقة الأشعرية.
وروى أن يوم القيامة لا ينتصف حتى يقيل المؤمنون في الجنة والكافرون في النار.
و{يوم الآزفة} هو يوم القيامة، يأمر تعالى نبيه أن ينذر العالم ويحذرهم منه ومن أهواله، قاله مجاهد وابن زيد.
والآزفة صفة لمحذوف تقديره يوم الساعة الآزفة، أو الطامة الآزفة ونحو هذا.
ولما اعتقب كل إنذار نوعًا من الشدة والخوف وغيرهما، حسن التكرار في الآزفة القريبة، كما تقدم، وهي مشارفتهم دخول النار، فإنه إذ ذاك تزيغ القلوب عن مقارها من شدة الخوف.
وقال أبو مسلم: يوم الآزفة: يوم المنية وحضور الأجل، يدل عليه أنه يعدل وصف يوم القيامة بأنه يوم التلاق، ويوم بروزهم، فوجب أن يكون هذا اليوم غيره، وهذه الصفة مخصوصة في سائر الآيات، يوم الموت بالقرب أولى من وصف يوم القيامة بالقرب، وأيضًا فالصفات المذكورة بعد قوله: {يوم الآزفة} لائقة بيوم حضور المنية، لأن الرجل عند معاينة ملائكة العذاب لعظم خوفه، يكاد قلبه يبلغ حنجرته من شدّة الخوف، ولا يكون له حميم ولا شفيع يرفع عنه ما به من أنواع الخوف.
{إذ القلوب لدى الحناجر} قيل: يجوز أن يكون ذلك يوم القيامة حقيقة، ويبقون أحياء مع ذلك بخلاف حالة الدنيا، فإن من انتقل قلبه إلى حنجرته مات، ويجوز أن يكون ذلك كناية عن ما يبلغون إليه من شدة الجزع، كما تقول: كادت نفسي أن تخرج، وانتصب كاظمين على الحال.
قال الزمخشري: هو حال عن أصحاب القلوب على المعنى، إذا المعنى: إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها، ويجوز أن تكون حالًا عن القلوب، وأن القلوب كاظمة على غم وكرب فيها، مع بلوغها الحناجر.
وإنما جمع الكاظم جمع السلامة، لأنه وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء، كما قال: {رأيتهم لي ساجدين} وقال: فظلت أعناقهم لها خاضعين، ويعضده قراءة من قرأ: {كاظمون} ويجوز أن يكون حالًا عن قوله: أي وانذرهم مقدرين.
وقال ابن عطية: كاظمين حال، مما أبدل منه قوله تعالى: {تشخص فيه الأبصار مهطعين} أراد تشخص فيه أبصارهم، وقال الحوفي: القلوب رفع بالإبتداء، ولدى الحناجر الخبر متعلق بمعنى الاستقرار.
وقال أبو البقاء: كاظمين حال من القلوب، لأن المراد أصحابها. انتهى.